في عام 2008، وصل مجلس إدارة شركة “ياهو” (Yahoo) التقنية العملاقة عرضا مُقتضبا لا يمكن رفضه من شركة “مايكروسوفت” (Microsoft) مفاده: نحن نعرف أن أوضاعكم سيئة وأنّكم تموتون، تغرقون في المستنقع، تعانون في السوق التقني ولم تعودوا قادرين على المنافسة، لذلك فنحن نعرض عليكم شراء شركتكم بقيمة 44 مليار دولار، وننتظر ردّكم على عرضنا في أسرع وقت.
المفاجأة أن رد “ياهو” السريع على عرض “مايكروسوفت” بالاستحواذ عليها جاء مخالفا لكل التوقُّعات المنطقية حينذاك، حيث رفضت “ياهو” العرض السخي، وأصرَّ مديروها التنفيذيون أن شركتهم مريضة ولكنها ليست ميّتة، وأنهم يمكنهم بعثها مرة أخرى من تحت الرماد لتعود إلى المنافسة.
في عام 2016، وبعد مرور 8 سنوات من رفض عرض “مايكروسوفت” السخي ذي الـ 44 مليارا، أُعلن الاستحواذ على شركة “ياهو” بالكامل بواسطة شركة “فيرايزون” الأميركية للاتصالات بقيمة 4.8 مليارات دولار فقط، أي ما يُعادل عُشر المبلغ الذي عرضته “مايكروسوفت” منذ عدة سنوات، ورفضته إدارة “ياهو” باعتباره لا يُعبِّر عن القيمة الحقيقية للعلامة التجارية للشركة.
أصبحت قصة رفض “ياهو” لاستحواذ “مايكروسوفت” عليها بقيمة كبيرة في 2008، ثم قبولها عرضا هزيلا بعد عدة سنوات، واحدة من أشهر مضارب الأمثال في عالم ريادة الأعمال، وافتتاحية دائمة لسؤال يؤرِّق كل مؤسس لشركة ناشئة جديدة: متى ينبغي لي أن أبيع شركتي؟ ومتى أمتنع عن قرار بيعها أو أؤجله؟
هناك خمس طرق رئيسية لإنهاء أعمالك في عالم الشركات الناشئة تُعرف باسم “إستراتيجيات الخروج” (Exit Strategies). أول هذه الطرق وأشهرها هو بيع شركتك الناشئة إلى شركة أخرى أكبر بمبلغ مالي جيِّد يُحدَّد بناء على معايير واضحة مثل قوتها السوقية ومستوى انتشارها والخدمات التي تُقدِّمها والتقنية التي تعمل بها.
الطريق الثاني للخروج هو الاندماج مع شركات أخرى لخلق كيانات جديدة، أما الطريق الثالث فهو استمرار الشركة الناشئة في عملها مع تنازل المؤسِّس عن بعض أدواره التنفيذية وتعيين مدير تنفيذي آخر يقود الشركة إلى مستويات أعلى من التطوير وتحقيق الأرباح. ويكمن الطريق الرابع في طرح الشركة للاكتتاب العام “IPO”، وأخيرا هناك الطريق الخامس والأصعب الذي يمكن اعتباره انسحابا من المعركة وليس خروجا، وهو تصفية الشركة الناشئة وتسييلها لتجنُّب المزيد من الخسائر.
من بين جميع هذه الطرق، يظل طريق الخروج الأشهر والأفضل هو بيع الشركة الناشئة إلى شركة أخرى، سواء كانت شركة أكبر مُهيمنة على السوق أو حتى شركة منافسة، مقابل صفقة مالية مُرضية للطرفين، وهو الأمر الذي يستدعي دراسة عميقة من طرف رائد الأعمال قبل اتخاذ قرار ببيع شركته إلى شركة أخرى.
متى تبيع شركتك الناشئة ؟
يمكن القول إن هناك معايير ثابتة وأساسية تُخبرك أن الوقت قد حان كي تضع فكرة بيع شركتك الناشئة في اعتبارك. بالطبع ليس شرطا أن تُقرَّر بيعها بمجرد دخولك هذه المرحلة، فالأمر يحتاج إلى دراسة أعمق من طرفك وشركائك، ولكن يمكن اعتبارها عوامل تُخبرك أن هناك إمكانية لبيع شركتك الناشئة فورا أو في مرحلة لاحقة.
أولا: الأمور تسير نحو التدهور
عندما تسير الشركة نحو التعثُّر، وتبدأ السيولة المالية في النفاد، والمشكلات الإدارية في التراكم بشكل يتجاوز قدرتك أو قدرة فريقك على استيعابها ووضع منهجيات لحلها، فهذه الحالة مناسبة لأن تُفكِّر في قرار البيع، خصوصا لو كانت مؤشرات الأداء العامة للشركة تقول إن الأمور ما زالت سلبية وأنها ربما تخرج عن السيطرة قريبا. حينئذٍ، من الجيد استغلال فرصة أن لديك بعض الوقت بدلا من الانتظار حتى تسوء الأمور أكثر.
الخطأ الشائع الذي يحدث في هذه المرحلة هو الانتظار بدلا من التحرُّك السريع. في الواقع، كلما أخذت الأمور منحى سيئا، وتأكَّد لديك عدم قدرتك على إعادة الأمور إلى نصابها بما تملكه من أدوات، فهذا يعني أن كل يوم يتأخر فيه قرار البيع يعني بالضرورة تخفيض السعر الذي يمكن التفاوض عليه مع استمرار التدهور في أداء الشركة. قد يصل الأمر في النهاية إلى بيع الشركة بثمن بخس للغاية، بسبب رفض مؤسسيها خيار البيع منذ بداية التدهور، وبالتأكيد فإن المثال الذي ذكرناه في مقدمة التقرير يُعتبر تجسيدا واضحا لهذه الحالة.
ثانيا: الأمور تسير سيرا ممتازا
على الجهة المقابلة، إذا كان مسار مشروعك ينمو نموا تصاعديا ممتازا، فهذا يضع احتمال البيع القريب، وبأعلى قيمة ممكنة. في عام 2010، انطلقت منصة “إنستغرام” للتواصل الاجتماعي، مُحقِّقة نموا هائلا بمعدل مليون مستخدم مُسجّل خلال شهرين فقط، وارتفع العدد ليصل إلى 10 ملايين مستخدم خلال العام الأول. هذا النمو السريع أدَّى إلى تقديم شركة “فيسبوك” عرض استحواذ كبير بقيمة مليار دولار، واستحوذت بالفعل على المنصة في عام 2012 بهذه القيمة.
أثارت الصفقة جدلا واسعا في حينها بشأن جدواها، وإذا ما كان “فيسبوك” محقا في دفع هذا الرقم الضخم لشراء تطبيق صغير ناشئ لم يكن قد مرَّ على تأسيسه 18 شهرا وإجمالي عدد العاملين به لا يتجاوز 13 موظفا، ولكن في وقت لاحق، صُنِّفت صفقة الاستحواذ على “إنستغرام” بوصفها “واحدة” من أهم الصفقات التي عقدها “فيسبوك” في تاريخه، خصوصا مع وصول عدد مستخدمي التطبيق إلى مليار مستخدم في عام 2018، مع أكثر من 500 مليون مستخدم نشط يوميا، وتحوُّله إلى إحدى أهم منصات التواصل الاجتماعي نموا وجذبا للمستخدمين.
ثالثا: وضع “الشركة الزومبي”
عندما تدخل الشركة في مرحلة ركود طويل مع فرص محدودة للتطوير، فلا هي في وضع جيد يُشير إلى أنها تسير في طريق إيجابي، ولا هي تُحقِّق نتائج مُتراجعة تضعها على عتبة الفشل، هذه المرحلة ما بين الشركة الحية والميتة يُطلق عليها رائد الأعمال الأميركي آرون هاريس مصطلح “وضع الزومبي” (Zombie Mode)، وهو اصطلاح أسطوري شهير يعني الجثث المتحركة.
يتطلَّب وضع الزومبي للشركات الناشئة تحرُّكا سريعا للخروج منه آمِنًا بمجرد التأكُّد أنه لم تَعُد هناك فرصة لدفع الأمور للنمو مجددا بناء على الإمكانات المتاحة. لم يَعُد هناك إمكانية لتطوير الفريق مثلا، أو وضع إستراتيجيات تحرُّك جديدة، أو ضخ تمويل إضافي ينعش أداء الشركة، مع فقر ملحوظ في أفكار التطوير والتحديث، وقتئذٍ ستكون خطة بيع الشركة قريبا ضرورة على الأرجح، بدلا من الدخول في الخيار الأسوأ وهو تصفيتها وإغلاقها.
رابعا: منافسوك سبقوك بخطوات كبيرة
أسَّست شركة ناشئة ناجحة في مجال معين، ولديك مجموعة من المنافسين، وبمرور الوقت، تبدأ شركتك في التراجع تدريجيا، حتى تخرج فعليا من المنافسة، في حين لم يَعُد منافسوك يتقدَّمون عليك بخطوة أو خطوتين فحسب، بل بمئات الخطوات. أصبح المنافسون كالأرانب تجري في ساحة السباق وأنت ما زلت تحبو كسلحفاة في السوق. ومع ذلك، ما زلت تمتلك بعض المزايا: تقنية معينة، حقوق ملكية ذات طابع مؤثِّر، علامة تجارية جيدة تجمع بضعة آلاف من العملاء، تأثير تسويقي جيِّد. بمعنى آخر، أنت تحتفظ ببعض أوراق اللعب في يديك، حتى لو كان منافسوك قد تجاوزوك بأشواط بعيدة.
في هذه الحالة، ما دام قد تأكَّد لديك أنك أصبحت خارج المنافسة وغير قادر على العودة مرة أخرى إليها، يصبح خيار بيع الشركة لأحد المنافسين الكبار خيارا مهما بدون شك، حتى لو بدا هذا الخيار صعبا أو مؤلما أو حتى مهينا بالنسبة لبعض رواد الأعمال الذين يرفضون بيع شركاتهم إلى منافسيهم بعد أن كانوا هم روّاد السوق. ورغم ذلك، يظل هذا هو الخيار الأكثر أمانا بدلا من الاستمرار في مؤخرة السباق وفقدان ما تبقى من عناصر قوتك، فتكون النهاية الحتمية هي الإغلاق والتصفية بدلا من الاستحواذ.
خامسا: ظروف ودوافع أخرى
هناك بعض الظروف التي تدفع رواد الأعمال لبيع شركاتهم الناشئة لأسباب خاصة بهم أو نابعة من تطلُّعات شخصية بحتة. على سبيل المثال، بعض الرياديين الذين يؤسِّسون شركتيْن ناشئتيْن في الوقت نفسه قد يضطرون إلى بيع إحداهما للتفرُّغ لإدارة الأخرى. أيضا هناك عوامل خارجية قد تدفع رائد أعمال لبيع شركته الناشئة المتخصِّصة في مجال معين في أقرب وقت ممكن، كما يحدث في حالات انتشار الأوبئة (مثل كورونا) أو الأزمات الكبرى التي تُغيِّر مسارات الأسواق ونشاطاتها.
متى تؤجل قرار بيع شركتك الناشئة ؟
على الأغلب، الشركات الناشئة الناجحة تحتاج إلى ما بين 6-10 سنوات حتى تُباع ويُستحوذ عليها من قِبَل شركة أخرى مقابل صفقة جيدة، هذه السنوات غالبا ما تُستغرق في تقوية عناصر تنافسية عديدة منها نموذج العمل التجاري الخاص بالشركة (Business Model) وكفاءته في تحقيق الأرباح، ونوعية الصناعة والسوق والأرقام ومؤشرات الأداء وغيرها.
ومع ذلك، بعض الشركات الناشئة يُقرِّر أصحابها -عن حق- أن يتمهَّلوا قليلا أو طويلا قبل اتخاذ قرار بيع الشركة، اعتمادا على عدد من المؤشرات التي تُخبرهم أن بيعهم لشركتهم الناشئة الآن يُعتبر قرارا خاطئا، مهما كانت المبالغ المعروضة عليهم ضخمة وهائلة.
أولا: اكتساح المنافسة
في صيف عام 2006، رفض الشاب مارك زوكربيرغ مؤسس “فيسبوك” -22 عاما- عرضا سخيّا من شركة “ياهو” بالاستحواذ على شركته الناشئة الصغيرة بقيمة مليار دولار. لم يكن قد مرَّ على تأسيس “فيسبوك” أكثر من عامين، وكان لا يزال شركة صغيرة ناشئة وليس “فيسبوك” الذي نعرفه اليوم.
لم يكن رفض زوكربيرغ حينئذٍ نابعا من حماسة غير محسوبة، بل كان رفضا مبنيا على مُعطيات واضحة مدروسة، أساسها أنه لا يوجد منافسون أقوياء للشبكة الاجتماعية التي أسَّسها. كانت الساحة خالية تماما، إلا من بعض الشبكات الاجتماعية الشبيهة ذات التأثير المحدود للغاية، مع مُعدَّل نمو هائل لفيسبوك في تلك الفترة. لاحقا، انهارت شركة “ياهو” -التي تقدَّمت بعرض شراء “فيسبوك”-، وصعد “فيسبوك” ليصبح واحدا من عمالقة التقنية العالميين وأكثرهم تأثيرا حول العالم.
ثانيا: التأكُّد من قدوم عروض أفضل
في عام 2014، أُعلن فجأة عن استحواذ شركة “فيسبوك” على تطبيق “واتساب” للرسائل الفورية في صفقة ضخمة بقيمة 19 مليار دولار وصفها الكثيرون بأنها صفقة مجنونة بكل المقاييس. تأسَّست شركة “واتساب” عام 2009، وحقَّقت نموا سريعا حتى جاءها عرض استحواذ من شركة “غوغل” بقيمة مليارَيْ دولار عام 2013، غير أن مؤسِّسي الشركة رفضوا العرض.
ما الذي يدعو مؤسِّس شركة ناشئة أن يرفض عرضا بقيمة مليارَيْ دولار للاستحواذ على شركته؟ السبب هو يقينه الكامل بقوة القيمة التي يقدِّمها مشروعه، الأرقام التي يُحقِّقها، النمو الهائل الذي ينتظرها، موقعها المُهيمن في السوق مقارنة بالمنافسين. كل هذه الأمور تجعل رائد الأعمال يؤجل بيع شركته وينتظر عرضا أفضل. نعم، في بعض الأحيان يكون أحدنا في موقع يؤهِّله لانتظار عرض بـ19 مليار دولار.
ثالثا: عندما يسيطر التعب والملل
في إجابته عن سؤال “متى ينبغي أن تسمح بالاستحواذ على شركتك الناشئة؟” على موقع “كورا” المتخصص للأسئلة والإجابات، ذكر رائد الأعمال جيسون إم ليمكين أنه من بين العناصر التي ينبغي أن تمنعك من بيع مشروعك الناشئ قريبا، أو تأجيل قرار بيعه على الأقل، هو شعورك بالتعب والإجهاد والملل من أعباء الشركة، والرغبة في التخلُّص منها سريعا. سمّى جيسون هذه الحالة بـ “السر القذر في عالم الاستحواذ”.
إذا دقَّقت النظر في العديد من الشركات الناشئة حول العالم، تجد أن لحظات الاستحواذ غالبا ما تكون مفاجئة وبلا مُقدِّمات. الشركة لديها قاعدة عريضة من العملاء الرائعين، علامة تجارية ممتازة، مستوى أرباح تصاعدي، موظفين على مستوى رائع، ثم فجأة ينتهي كل شيء بصفقة استحواذ كان من المفترض ألا تحدث في هذا التوقيت.
ما حدث هو -عندما يكون العرض المُقدَّم للاستحواذ مُغريا بما يكفي- أن مؤسِّسي الشركة ربما أُصيبوا بالملل والإجهاد وقرَّروا التخلّي عن مشروعهم الناشئ مع أقرب عرض يبدو جيدا والاستفادة من المال. يقول جيسون إن بعض المستثمرين في صناديق الاستثمار الجريء يستهدفون دائما الشركات الناشئة المميزة التي يعرفون أن مؤسِّسيها أُصيبوا بالإرهاق، ويستغلون الفرصة لتقديم عروض متواضعة للاستحواذ على شركاتهم، وفي المقابل، يهرع أصحاب الأعمال لقبول هذه العروض، ليس فقط لأنها تُزوِّدهم بسيولة مالية، لكنها تُقدِّم لهم أيضا وعدا بالتخلُّص من الأعباء التي تُحاصرهم. لاحقا، تأتي لحظة الندم الكبرى عند إدراك أن قيمة هذه المشروع المَبيعة أكبر بكثير من العروض التي قبلوها.
ما الحل في هذه الحالة؟ التمهُّل! وضخ دماء جديدة في الشركة، إعادة توزيع المهام، الحصول على جولة تمويلية جديدة، تعيين مدير تنفيذي جديد للشركة يقود مهامها بنشاط وحركية أكثر. بعبارة أكثر اختصارا، يجب أن يكون قرار بيع الشركة مبنيا على دوافع وأسباب واضحة، ليس من بينها الشعور بالعبء أو الملل والرغبة في التخلُّص من المشروع في أقرب وقت.
أخيرا، يبقى قرار بيع الشركة الناشئة واحدا من أهم القرارات وأخطرها التي يتخذها رائد الأعمال طوال مسيرته الريادية، قرار قد يُصبح الأفضل إن اتُّخِذَ في الوقت الصحيح وبطريقة سليمة، ولكنه قد يتحوَّل أيضا إلى كارثة وخسارة لا تُعوَّض إذا مضينا فيه بعجلة غير مدروسة. وتبقى خبرة رائد الأعمال وتقديره الصحيح للأمور هي رمانة الميزان في هذا الموقف!